أنوار وظلال منصات التطوير المدني المعاصرة 3/7
المقدمة
في الجزأين الأول والثاني رأينا كيف أنقذت EUC و«إكسل الإلهي» الخطوط الأمامية على المدى القصير، لكنها تركت للمؤسسات إرثًا سلبيًا طويل الأمد. ينتقل هذا الجزء إلى الحاضر لنفحص أنوار وظلال منصات التطوير المدني المعاصرة مثل RPA وأدوات اللا/قليلة الشفرة.
فهي تعيد سرد قصة «إكسل الإلهي»، لكن على نطاق أوسع ودرجة اعتماد أعلى. ولا بد من فهم خصائصها جيدًا قبل أن نناقش أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي في الجزء التالي.
خلفية سياقية: ظهرت موجة RPA في اليابان أواخر العقد الماضي بوصفها حلًا سريعًا لمشكلات ساعات العمل الإضافية ولسياسات «إصلاح أسلوب العمل». روّجت الشركات الموردة لفكرة أن الموظف غير التقني يستطيع أتمتة المهام الليلية في يوم واحد، فتبنّى التنفيذيون السردية بوصفها مسكّنًا تنظيميًا سريعًا. هذا السياق الاجتماعي والقانوني يفسر تبنّي البلاد لـRPA بوتيرة أسرع، وأحيانًا أكثر سذاجة، من كثير من الدول الغربية.
السلسلة كاملة
- رؤية مستقبل التطوير المدني── التاريخ والواقع والذكاء الاصطناعي التوليدي وما بعده 0/7 (غير متاح بالعربية بعد)
- عودة التطوير المدني بوصفه EUC؟── دروس التاريخ من «إكسل الإلهي» 1/7 (غير متاح بالعربية بعد)
- هل كان «إكسل الإلهي» شرًا حقًا؟── من المنقذ إلى الإرث السلبي 2/7
- أنوار وظلال منصات التطوير المدني المعاصرة 3/7 (هذه المقالة)
- أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي على التطوير المدني 4/7
- كيفية تجنب الحوكمة والإرث السلبي 5/7
- انحراف زاوية الرؤية يصنع الإرث السلبي بكميات ضخمة 6/7
- مستقبل التطوير المدني── الإرث يولد باستمرار ومع ذلك يمكن ترويضه 7/7 (غير متاح بالعربية بعد)
الجانب المضيء── لماذا جرى تبنيه؟
فورية الأثر
تتيح هذه الأدوات بناء أتمتة بسيطة أو تطبيقات خفيفة عبر واجهة رسومية دون كتابة كود. القدرة على استبدال أعمال يومية روتينية خلال بضعة أيام نعمة كبيرة للخط الأول.
قوة «التصور البصري»
يمكن عرض مخططات التدفق أو شاشات النماذج بشكل مرئي مفهوم حتى لغير المتخصصين. بالنسبة للإدارة العليا، رؤية «صورة تعمل» تمنحهم طمأنينة كبيرة وتصبح سببًا حاسمًا لدفع التنفيذ.
الخطوة الأولى للمواطنين
في الاستخدامات المحدودة مثل نماذج الإدخال أو سير العمل المبسط، يستطيع غير المهندسين بناء ما يحتاجون إليه. هنا يشعر الناس فعلًا بأن «أي شخص يمكنه فعل ذلك»، ما يوسع قاعدة التطوير المدني داخل المؤسسة.
الجانب المعتم (1)── «جدار الاحتراف» في العمل الفعلي
على السطح تبدو الأدوات «ممكنة للجميع»، لكن ما إن نحاول استخدامها بجدية حتى نحتاج طريقة تفكير تعادل البرمجة، ورؤية تصميمية أقرب لمهندس الأنظمة.
-
حتمية البنى التحكّمية تقسيم المعالجة حسب شروط العملاء يحتاج إلى تفرعات If/Else. معالجة مئات السجلات تتطلب حلقات ForEach. التعامل مع تأخر الأنظمة الخارجية أو أخطائها يستلزم آليات Try/Catch. ما تغير هو شكل السحب والإفلات، أما الجوهر فبرمجة خالصة.
-
فهم بنية البيانات لا غنى عن فك JSON والمصفوفات، ومواءمة الطبقات، وتوحيد صيغ التواريخ والأرقام. ليست مجرد بديل للجدول، بل مهمة تنهار إن لم يفهم صانعها التركيب البياني.
-
تعقيد تكامل الأنظمة إدارة صلاحية رموز API، وضمان الاتساق عند عبور أنظمة متعددة، وتجنب حدود الاستدعاءات… كلها تحديات الهندسة البرمجية التقليدية تظهر هنا أيضًا. الواجهة الرسومية تخفيها، لكن الصعوبة أعلى في كثير من الأحيان.
-
متطلبات التشغيل والجودة المراقبة، جمع السجلات، الفصل بين بيئات الاختبار والإنتاج، وآليات التراجع عند الإطلاق؛ وكلها عناصر يجب تصميمها بعناية. وحين لا توجد إدارة بالكود، تصبح المراقبة أصعب.
أمام هذا الجدار يصعب على مطور مدني أن يبني أو يحافظ على نظام عملي بمفرده، فيعود الاعتماد على المختصين. ومع ذلك تبقى مشكلة سعة الفرق المتخصصة بلا حل.
الجانب المعتم (2)── احتجاز الموردين وصعوبة النقل
كان لدى «إكسل الإلهي» متنفس واحد: الملف قائم بذاته. يمكن تصدير البيانات إلى CSV، ورغم أن الدوال والماكرو مرتبطة بـExcel، توجد برامج متوافقة جزئيًا، ويمكن قراءة المنطق وفهمه. أما مخرجات RPA واللا/قليلة الشفرة فهي حبيسة واجهات وإعدادات خاصة بكل منصة.
- الانتقال إلى منتج آخر يعني عمليًا «إعادة البناء من الصفر».
- إيقاف خدمة SaaS أو تغيير مواصفاتها خارج سيطرة المستخدمين، وقد يتحول الأصل المتراكم إلى لا شيء بين ليلة وضحاها.
- بناء الحل فوق PaaS يربط المؤسسة بمنظومة تلك السحابة ويجعل الخروج مهمة شبه مستحيلة.
- حين تُعرّف المنطق عبر الواجهة بدل الكود يصبح تحديد موضع المشكلة والبحث عنها أمرًا صعبًا.
- حسب تصميم الأداة قد لا يظهر ما بداخل المكوّن إلا بعد النقر المزدوج، ما يخفض قابلية القراءة.
مقارنة بملفات الجداول التي أنهت قصة «إكسل الإلهي»، يرتفع الاعتماد وتتضاعف مخاطر الديون التقنية أضعافًا.
الجانب المعتم (3)── تحيز «التصور» الذي يخدع الإدارة
يعلم التقنيون أنهم عاجلًا أم آجلًا سيصطدمون بـ«جدار الاحتراف». لكن الإدارة العليا حين ترى مخططات ورسومات جذابة تعتقد بسهولة أن «أي شخص يمكنه تشغيل ذلك».
لماذا؟ لأن الأنظمة بالنسبة لهم صناديق سوداء عادة، وحين تُعرض أمامهم عمليات أعمال متصلة بأسهم أو نماذج إدخال مرتبة، يظنون أنهم فهموا التعقيد الداخلي. لكن خلف هذه الصور توجد نفس منطق التحكم ومعالجة الأخطاء الموجودة في البرمجة. ولتحويلها إلى نظام يتحمل العمل الحقيقي لا بد من معرفة هندسية.
هذا الفارق بين «طمأنينة الإدارة» و«قلق التقنيين» هو التربة التي تسرّع اعتماد هذه الأدوات بينما تضخم ديون المستقبل.
نحو عصر «إكسل الإلهي 2.0»
يتضح من هذا التحليل أن RPA واللا/قليلة الشفرة تكرر النمط نفسه: إنقاذ سريع للخطوط الأمامية، إقناع للإدارة عبر التصور، ثم صندوق أسود وشخصنة يتحولان إلى عبء ثقيل.
الاختلاف الحاسم هو نطاق التأثير. فبينما كان «إكسل الإلهي» ملفًا مستقلًا، أصبح التطوير المدني الحديث متشابكًا مع السحابة والعمليات المحورية، ويمكنه أن يتحول إلى دين يقيّد المؤسسة بكاملها. بل إنه يمتلك بنية احتجاز أقوى من Excel ذاته. هذا ما يجعل الوضع قريبًا مما يمكن أن نسميه «إكسل الإلهي 2.0».
خلاصة
- قُبلت RPA واللا/قليلة الشفرة لأن أثرها الفوري ورؤية نتائجها بالعين أقنعا الخط الأول والإدارة معًا.
- لكن تحمّل الاستخدام الفعلي يستلزم معرفة بهياكل التحكم والبيانات وتكامل الأنظمة وتصميم التشغيل—أي صميم هندسة البرمجيات—ولا يستطيع مطور مدني وحده القيام بذلك.
- الواجهات الخاصة بكل منصة تجعل النقل شبه مستحيل، ما يعزز احتجاز الموردين.
- تحيز «التصور» لدى الإدارة يقلل تقدير هذه المخاطر.
في النهاية تبدو منصات التطوير المدني الحديثة أقوى من «إكسل الإلهي»، لكنها في الوقت نفسه أخطر منه. في الجزء التالي سنستكشف ما الذي يحدث عندما يدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي هذا المسار.
المقال التالي: أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي على التطوير المدني 4/7